التيار (نواكشوط) - شهدت مالي، فجر الثلاثاء 1 يوليو، تصعيدا أمنيا غير مسبوق تمثل في هجوم واسع شنته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التابعة لتنظيم القاعدة، استهدف سبع مدن في الغرب المالي بينها خاي، نيونو، نارا، نيورو دو الساحل، وديبولي، في عملية منسقة ومباغتة كشفت عن تحول لافت في خارطة الانتشار الجهادي بالبلاد.
وبالرغم من حديث الجيش المالي عن نجاحه في صد الهجوم، معلنا مقتل نحو 80 مسلحا، فإن حجم العملية وطبيعة المدن المستهدفة أثارا مخاوف عميقة من أن تكون الجماعة قد قررت توسيع نطاق عملياتها إلى مناطق كانت حتى وقت قريب خارج نطاق المواجهة، ما يعيد رسم حدود الخطر الجهادي ويقربه أكثر من العاصمة باماكو ومن حدود موريتانيا، والسنغال.
ويرى العديد من المراقبين أن هذه الهجمات تعد تطورا لافتا في استراتيجية الحركات ذات التوجه "الجهادي"، والتي اعتمدت سابقا على نمط حروب العصابات في الشمال والوسط، لكنها الآن تنقل معركتها إلى مناطق حساسة استراتيجيا، من حيث الموقع الجغرافي والبنية الاقتصادية للبلاد، بما فيها ممرات التجارة والنقل الحيوية الرابطة بين مالي وجوارها الغربي، الذي يمثل شريان حياة للعاصمة باماكو، بل لغالبية البلاد.
ويمثل هذا التمدد تحديا وجوديا للدولة المالية، التي لا تزال تعاني من ضعف حضورها المؤسساتي في الأطراف، وتواجه صعوبات كبيرة في فرض سلطة القانون، في وقت تزداد فيه عزلة باماكو الدولية منذ سيطرة العسكريين على مقاليد الحكم فيها قبل قرابة خمس سنوات، وانسحاب القوات الفرنسية وقوات بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، وتحول البلاد تدريجيا إلى الاعتماد على الدعم الروسي.
ويرى بعض المعارضين الرافضين لهذه التحولات السياسية في البلاد، أن الفراغ الأمني الناجم عن هذه التحولات الجيوسياسية فتح الباب أمام الجماعات الجهادية لإعادة تنظيم صفوفها وتوسيع نفوذها، مستخدمة تكتيكا مزدوجا يجمع بين العمل العسكري العنيف والاختراق المجتمعي، من خلال تقديم خدمات موازية أو التعايش المشروط مع بعض المجتمعات القروية المهمشة، وسيطرة الخطاب العرقي، والفؤوي، وتمدده داخل المنظومة المتصدرة لواجهة المشهد المحلي بكافة تناقضاتها السياسية والفكرية، والعسكرية.
ويرى متابعون للتطورات في منطقة الساحل، أن هذه التهديدات المتزايدة، تبرز الحاجة إلى تنسيق أمني إقليمي عاجل يشمل موريتانيا والسنغال، خاصة أن الهجمات طالت مناطق لا تبعد سوى كيلومترات من الحدود مع هذين البلدين، ما قد يجعل من غرب مالي قاعدة ارتكاز جديدة لتنفيذ عمليات عابرة للحدود في حال غياب الاستجابة الحازمة.
ويؤكد المراقبون أن الرد الأمني وحده لا يكفي، إذ يتطلب الأمر مقاربة شاملة تعالج جذور الأزمة، خصوصا ضعف التنمية في المناطق المتضررة، وتآكل الثقة بين السكان المحليين والدولة، وتزايد الانتهاكات المنسوبة إلى بعض الوحدات العسكرية، وغياب التفريق بين من يرفع مطالب سياسية أو اجتماعية، ومن يعتنق فكرا "متطرفا"، وهي عوامل تغذي البيئة الحاضنة للتنظيمات المسلحة وتصعب اجتثاثها.
ومع تصاعد هذه التحديات، يؤكد بعض الفاعلين السياسيين في مالي، أن الحاجة تفرض إعادة بناء الدولة من القاعدة، عبر تعزيز الحكم المحلي، وضمان حضور إداري فعلي في المناطق الحدودية، وإطلاق برامج تنموية طارئة تفتح آفاقا اقتصادية بديلة للشباب وتقلص من جاذبية الخطاب المتطرف الذي يستثمر في اليأس والتهميش، مع ضرورة معالجة المظالم السياسية والاجتماعية بالحوار، بدل البندقية.
ويرى مراقبون أن مالي التي تعيش مرحلة انتقال سياسي وعسكري معقدة، باتت أمام لحظة حاسمة من تاريخها، فإما أن تنجح في إعادة ضبط معادلة الأمن والتنمية وبناء شراكات واقعية مع جوارها المباشر، أو تواصل التآكل البطيء، بل المتسارع في أحايين كثيرة، لكيانها، في ظل تمدد جماعات باتت لا تعترف بالحدود، ولا بالدولة القطرية أصلا، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا لموريتانيا التي تعد بالنسبة للمتابعين، والشركاء الدوليين، استثناء من حيث الاستقرار، ومواجهة التحديات الأمنية في المنطقة.
ويؤكد مراقبون أن الهجوم الأخير ليس مجرد إنذار أمني عابر، بل هو مؤشر على دخول الأزمة المالية مرحلة جديدة، تعيد خلط الأوراق، وتنذر بأن خطر تفكك الدولة لم يعد نظريا أو بعيدا، بل بات احتمالا حقيقيا في حال غابت الرؤية السياسية والاستجابة الشاملة، وانهيار جمهورية مالي يشكل بالنسبة لكثير من الباحثين، بداية فشل أكبر لعدد دول منطقة الساحل وغرب إفريقيا.