في خضم السجال السياسي تتخلق معايير وتندثر أخرى دون وعي لحظي مناسب بهذه التحولات.
من ذلك أن ينبت السجال عن الواقع تماما وتتشكل السردية العامة وفق حدة أو هدأة السجال.
وفي لحظة ما تنكشف حقيقة هذا التضخم نتيجة حدث أو أطروحة جديدة.
وفي اعتقادي أن خطاب وزير المعادن والصناعة الشاب /تيام تيجاني بمدينة ازويرات أبان عن وعي ظل معتزلا خارج مؤثرات التنابز السياسي ليحتفظ بأصالة الوعي التاريخي بالواقع.
لم يكن خطاب الوزير محابيا ولا محتاجًا إلى مجازٍ ثقيل ولا إلى مقارنات مستهلكة ليبلغ أثره، لأن جوهره لم يكن في البلاغة، بل في المثال. ففي لحظة يتكاثر فيها الحديث عن الإقصاء، ويجري فيها تسويق أطروحات ترى في الدولة أداة فرز لا إطار إنصاف، اختار الوزير أن ينفي ذلك نفيًا عمليًا، هادئًا، ومباشرًا، حين استدعى مساره الشخصي لا بوصفه قصة نجاح فردية، بل بوصفه دليلاً على منطق الدولة نفسها.
حين ذكّر بأنه تدرّج في مدارس عمومية، وتكفلت الدولة بمنحته الدراسية في الخارج، ثم عاد ليُكلّف لاحقًا بمسؤوليات عليا، دون تدخل من اي جهة، شخصية كانت أو اعتبارية ، لم يكن بصدد بناء سردية ذاتية، بل كان يضع أمام الرأي العام حقيقة بسيطة ومحرجة في آن واحد: أن الدولة الموريتانية، رغم كل ما مرت به من هزات ، لم تغلق يوما باب عموميتها في وجه أي كان فقد ظلت المسارات مفتوحة أمام الجهد الكفاءة .
قوة هذا الاستحضار أنه جاء بلا ادعاء، وبلا تصادم مع أحد، لكنه في عمقه كان تفكيكًا هادئًا لأطروحات كاملة تُبنى على تعميمات كسولة، وتبرر الاشكاليات الوطنية بدوافع سياسية مرتبة (نظرية المؤامرة) . فالوزير لم يقل إن الدولة مثالية، ولم ينكر الاختلالات، لكنه قدّم نفسه مثالًا حيًا على أن مسار الدولة لم يُغلق، وأن باب الثقة لم يكن يومًا حكرًا على جهة أو فئة، وأنا أبناء الوطن قد حظوا بذات الفرص في كل الحقب ورغم كل الظروف.
بهذا المعنى، لم يكن خطاب معالي الوزير سياسيًا فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الأبعاد الاجتماعية التاريخية والأمنية.
فقد نقل النقاش من مستوى الادعاء إلى مستوى الوقائع ومن منطق الاتهام إلى منطق البرهان. لم يدافع عن الدولة بعبارات إنشائية، بل ترك سيرته الدراسية والمهنية تتكلم عنها. وفي ذلك قوة لا تملكها خطابات الغضب، لأن المثال حين يكون صادقًا، يُربك السرديات الجاهزة أكثر مما يفعل الجدل.
خطاب أزويرات، في هذه الزاوية تحديدًا، لم يكن ردًا على أحد، لكنه كان رسمًا لحدود النقاش وإعادة هندسة للوقائع التي باتت منسية في خضم الخطاب السياسي السطحي.



