- التفاصيل
في صبيحة يوم السابع والعشرين مايو 1979 كانت طائرة "بيفالو" التابعة للجيش الموريتاني على وشك الهبوط في مطار دكار، قبل أن ترتفع محلقة باتجاه المحيط في رحلة لن تعود منها. كانت تلك الطائرة تقل وفدا رفيع المستوى يفترض أن يمثل موريتانيا في القمة الاقتصادية
لدول غرب إفريقيا وكان يرأس ذلك الوفد النائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية، رئيس الوزراء، المقدم أحمد ولد بوسيف، ويضم قائد القوات الجوية النقيب انجاي اندياك، ومدير ديوان رئيس الوزراء الدكتور والي انضو، والسفير با إبراهيما بالإضافة إلى المرافق العسكري وموظفين في وزارة الخارجية وسينمائي وصحفي وميكانيكيين.
أكدت الأنباء الأولية القادمة من العاصمة السنغالية أن الطائرة هوت في المحيط، كانت الرؤية محدودة بفعل الرياح القوية المحملة بالأتربة، ووسائل الإنقاذ جد محدودة لدى كل من السنغال وموريتانيا، فكان على الجميع أن يتقبل بسرعة –رغم هول الكارثة- أن رجل موريتانيا القوي والوفد المرافق له قد قضى عليهم في حادث تحطم الطائرة.
بدا الأمر أشبه ما يكون بحادث عادي، فقد اجتمعت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني في اليوم الموالي لتعلن حدادا وطنيا لمدة 40 يوما ولتسند –حسب مقتضيات ميثاق اللجنة العسكرية- للنائب الثاني لرئيس اللجنة المقدم أحمد سالم ولد سيدي "مهمة تسيير الشؤون الجارية والمستعجلة لرئيس الحكومة". وأمعنت يومية الشعب –لسان حال السلطة- في الإشادة بفقيد الأمة وابنها البار الذي كان "قائدا شجاعا ورجلا صلبا تحدى كل المخاطر ونال إعجاب واحترام الأصدقاء والأعداء".
غير أنه مع حلول يوم ال 31 مايو 1979 تبين أن "تحطم طائرة بوسيف" كان إعلانا لنهاية مرحلة وبداية أخرى، فقد عقدت اللجنة العسكرية اجتماعا طارئا حمل إلى السلطة فريقا جديدا بتوجهات جديدة -بقيادة المقدم محمد خونه ولد هيداله- كان فيما بدا متلهفا للاستحواذ على السلطة و"اجتثاث" كل المقربين من رئيس الوزراء الذي لم يمض على إعلان الحداد عليه أكثر من 3 أيام!
وصف البيان الصادر عن هذا الاجتماع بوسيف "بالشهيد الضابط ورجل الدولة ذي الخصال النادرة"، غير أن رغبة القادة الجدد في اجتثاث المقربين منه كانت عارمة لدرجة أنها بدأت بالوزير المكلف بالأمانة الدائمة للجنة العسكرية المقدم محمد ولد عبد القادر ولم تنته إلا وقد أطاحت ببعض حكام مقاطعات نواكشوط والمفوض المركزي للعاصمة وقائد فرقة المرافقات الأمنية، مرورا بقيادات عسكرية ضمت كلا من: المقدم الشيخ ولد بيده، الرائد تيام الحاج، الرائد يال عبد الله، الرائد آن آمادو بابا لي، النقيب جبريل ولد عبد الله...
لم يتوقف الأمر على الوضع الداخلي للبلاد، بل شمل التغيير أيضا المواقف الخارجية حيث أعيد فتح المفاوضات المتعثرة مع البوليساريو، وفي الخامس أغشت تم توقيع صلح منفرد معهم بعد وقت قصير من الهجوم المهين على "تشله". وفي 14 يونيو استعادت موريتانيا علاقاتها مع الجزائر وتدهورت علاقاتها مع كل من المغرب وفرنسا. هل يمكن أن يكون الأمر كله صدفة سعيدة سقطت على رؤوس فريق هيداله وحلفائه في شبه المنطقة؟ أم أن هناك بالفعل من كان يمتلك مصلحة في إبعاد بوسيف وفريقه من السلطة وقام بالتخطيط لعملية تحطم الطائرة؟
جذور الصراع
لم يكن المقدم بوسيف ضمن الفريق الذي انقلب على السلطة المدنية صبيحة العاشر يوليو 1978، بل كان الانقلابيون يرون فيه خطرا تجب تصفيته قبل الإقدام على تنفيذ انقلابهم، غير أن البحث عن الحصول على إجماع داخل القيادات العسكرية البارزة لإنجاح الانقلاب، جعلهم يضمون إلى صفوفهم ضباطا مناوئين لهم. لم يقبل بوسيف عضوية اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني وإن كان قبل بمنصب وزير الصناعة والصيد في أول حكومة منبثقة عن السلطة الجديدة.
بالنسبة لصقور العاشر يوليو كان الأمر بمثابة انقلاب على الانقلاب، حين عمد المقدم المصطفى ولد محمد السالك –في تجاوز للدور المرسوم له- إلى إشراك كبار الضباط المناوئين للانقلاب. وعلى الفور تشكل جناحان داخل السلطة الجديدة ضم كل منهما رؤوسا متعددة: تزعم الجناح الأول الرئيس ولد محمد السالك وضم الرائد جدو ولد السالك والجناح المدني الذي خطط للانقلاب، بينما ضم الجناح الثاني كلا من بوسيف وهيداله وأحمدو ولد عبد الله...
كان التحدي الأبرز الذي يواجه السلطة الوليدة –بالإضافة إلى تسيير خلافاتها الداخلية- هو الخروج من ورطة حرب الصحراء. ومع أن الصحراويين قد أعلنوا في ال13 من يوليو 1978 وقفا لإطلاق النار، إلا أنهم كانوا يضغطون بقوة من أجل عقد صلح منفرد وانسحاب موريتاني سريع من واد الذهب. وكان الجزائريون والليبيون بشكل خاص يدفعون بهذه الضغوط إلى أقصى مداها مستخدمين ما نسجوه من علاقات مع حكام نواكشوط خلال فترة التحضير للانقلاب.
في البداية تمسك الانقلابيون بفكرة الحل الشامل كرؤية رسمية لتسوية النزاع وفتحوا مفاوضات مباشرة مع جبهة البوليساريو في عدة عواصم عبر العالم. غير أن هذا الموقف لم يكن يحظى بالإجماع داخل صفوفهم، لأن من بينهم من كانوا في عجلة من أمرهم للخروج من الحرب بأي ثمن، ومن فتحوا مفاوضاتهم الخاصة مع الصحراويين وخصوصا مع حلفائهم في المنطقة.
وبعد ثمانية أشهر من ممارسة السلطة، كان العجز باديا في مختلف الميادين التي أعلنت مبررا للانقلاب (الحرب، الاقتصاد، الديمقراطية) وكانت الصراعات الداخلية تتفاقم حتى داخل الجناح الواحد، فقرر الرئيس ولد محمد السالك يوم 20 مارس 1979 إلقاء حجر في البحيرة الراكدة عبر تعديل ميثاق اللجنة العسكرية بشكل يمنحه صلاحيات أوسع، وعبر التخلص من جدو ولد السالك ومجموعته بالإضافة إلى الإعلان عن تشكيل مجلس استشاري كخطوة أولى باتجاه التحرك نحو الديمقراطية.
كانت هذه الإجراءات بمثابة رصاصة رحمة على حكم ولد السالك الذي تركته من دون سند قوي، فأدرك الجناح المناوئ له أن الوقت قد حان للانقضاض على السلطة. وسيكون الموريتانيون في 6 أبريل على موعد مع بيان رقم 1 جديد يتضمن وعودا جديدة لكنه يتضمن أيضا "نقدا ذاتيا" لا يخفى معه أن البلاد في طريقها لأن تدخل منعطفا جديدا.
سقطت لجنة الإنقاذ، تاركة مكانها للجنة الخلاص التي ستدشن عهدها بالاعتراف بأن القوات المسلحة "قد ارتكبت خطأ مقاسمة السلطة –إن لم يكن الأمر يعني أكثر من المقاسمة- مع سياسيين قدماء وشبان حالمين"، وما لبثت عيوب هؤلاء ونقص تجربة ألئك أن انحرفت بالسلطة عن هدفها الأساسي وورطت موريتانيا يوما بعد يوم في تناقضات خطيرة على المستويين الداخلي والخارجي.. إن الأمر يعني، بعبارة أخرى، "بالنسبة للقوات المسلحة الوطنية -التي هي صاحبة المشروعية الوطنية- النهوض من الآن فصاعدا –وبكل وعي- برسالتها المقدسة المتمثلة في إنقاذ الوطن من الخطر".
جرى هذا التحول الجديد بقيادة المقدم أحمد ولد بوسيف الذي أصبح نائبا أول لرئيس اللجنة ورئيسا للوزراء يجمع بين يديه كل الصلاحيات التنفيذية. كان الأمر مفاجأة من العيار الثقيل، فالرجل الذي فكر قادة الانقلاب في تصفيته قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى الاكتفاء بإبعاده إلى النعمه قبل ثلاثة أشهر من تنفيذ الانقلاب، قد أصبح الآن الماسك الفعلي بزمام الأمور، وأصبحت بصماته تطبع كل مخرجات السلطة بدءا بالطريقة "اللبقة" التي تم بها سحب السلطة من الرئيس ولد السالك وليس انتهاء بالإعلان –ومنذ اليوم الأول- عن "متابعة البحث عن السلام بالطرق والوسائل الملائمة والأكثر مسؤولية، وأن السلام الذي نبحث عنه هو السلام الذي يضمن لنا الكرامة والوئام الوطني".
الانقلاب على الانقلاب
رغم أن الصعود المفاجئ لبوسيف إلى قمة السلطة قد فاجأ الكثيرين، إلا أن الضباط المناوئين للحكم المدني المطاح به في 10 يوليو والقوى السياسية الفاعلة، كانوا يدركون جيدا ما الذي يعنيه صعود الرجل الذي كان من أوائل ضباط الجيش الوطني وحصد 5 أوسمة عسكرية وتمت تسميته "بطل حرب"، وسبق أن استدعي من جبهة القتال لقيادة الأركان بعد الهجوم الذي نفذته البوليساريو على نواكشوط سنة 1976.
وتماما مثلما لعب البعثيون دور عرابي سلطة العاشر من يوليو، فقد كان الميثاقيون هم من استبق تصحيح 6 ابريل بالإعراب عن قناعتهم بأن "اتجاها وطنيا يعتمد على تفاهم وطني عريض ويتكفل بتطبيقه وطنيون مخلصون، هو الضمان الوحيد لإنقاذ البلد".
أصبح الأمر إذا يتجاوز مجرد الخلاف حول "الحل المنفرد أو الحل الشامل" بخصوص القضية الصحراوية، أو الصراع على هذا المنصب أو ذاك، لأن الأمر بات يتعلق بما يعتبره انقلابيو 10 يوليو التفافا على انقلابهم ومحاولة لإعادة النظام السابق إلى السلطة. لقد أصبحت الأوراق مكشوفة أمام الجميع وأبواب السباق مشرعة، والجائزة تنتظر من سيكون أول الواصلين.
لم يكن إذا أمام فريق بوسيف أي وقت يضيعه لا على المستوى الداخلي ولا على المستوى الخارجي، بل كان عليه أن يتحرك بالسرعة القصوى إلى الأمام وإن كان الهدف إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
تكرست سلطة الرجل أكثر يوم 12 ابريل بعد صدور الميثاق الجديد للجنة العسكرية الذي يعطيه سلطة تعيين الحكومة بل والتعيين في كل الوظائف المدنية والعسكرية، فأمر بإطلاق سراح أعضاء الحكومة المدنية المحتجزين منذ 10 يوليو، كما بعث موفدا إلى الرئيس السابق ولد داداه في سجنه بولاته ليخبره بأن إجراءات إطلاق سراحه قد تم الشروع فيها.
من جهة أخرى، استمرت المفاوضات مع الصحراويين بل وصلت مراحل متقدمة بالتوقيع على ابروتوكول اتفاق في 22 ابريل في طرابلس بين موريتانيا وليبيا تتعهد بموجبه الأولى بتوقيع اتفاقية صلح مع البوليساريو يوم 26 مايو 1979، لكن رجل نواكشوط القوي كان قد استقبل بعد يومين من تصحيحه أول ضيف أجنبي ممثلا في الرئيس السنغالي سينغور –الذي صعد قبل شهرين من "ماتام" حملته ضد موريتانيا- ثم صرح في أول مؤتمر صحفي له بأن "محور السنغال/الرباط/باريس هو شيء طبيعي بالنسبة لنا وأن موريتانيا يجب ولا يمكن إلا أن تكون لها علاقات طبيعية وودية مع دول هذا المحور"، وبأنها "تدعم قرار الأمم المتحدة بشأن الصحراء، لكن ذلك لن يكون على حساب تحالفها مع المغرب".
وفي الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية أحمدو ولد عبد الله يفاوض في طرابلس، كان الثنائي بوسيف وكادير قد أكملا إعداد وثيقة سرية حول القضية الصحراوية خلصت إلى أن السلام "لن يكون بأي ثمن ولن يكون إلا شاملا". وفي 28 ابريل كان بوسيف في آبدجانه لترؤس اجتماع للدول الأعضاء في "اتفاقية عدم الاعتداء والمساعدة في القضايا المتعلقة بالدفاع" وللمشاركة في اجتماع مجلس وزراء المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
وفي فاتح مايو كان يستقبل في نواكشوط اللجنة المصغرة لمنظمة الوحدة الإفريقية الخاصة بالصحراء الغربية (أوباسانجو، موسى تراوري وإيدام كوديو)، وفي 2 مايو كان في فاس للقاء الحسن الثاني، وفي اليوم الموالي كان في باريس للتباحث مع كل من جيسكار دستينه وريمونه بار، وفي طريق عودته إلى نواكشوط أجرى مباحثات في مدريد مع السلطات الأسبانية، وفي فاس مع المغاربة.
كان جدول أعمال رئيس الوزراء مشحونا، لكنه مكنه من ربط الصلة بمختلف أطراف محور باريس-مدريد-الرباط- نواكشوط- دكار، مما سمح له بعد انتهاء زيارته بالتصريح وهو أكثر ثقة من ذي قبل بأن "الانسحاب من واد الذهب (تيرس الغربية) سيكون مرتبطا بتقرير مصير الصحراء الغربية"، نافيا أن تكون موريتانيا "قد وقعت أي بروتوكول اتفاق في طرابلس يتعلق بتنازلها عن واد الذهب وأن المعلومات التي تم تدولها بهذا الشأن لا أساس لها من الصحة.
لقد تمكن الرجل بالفعل من بناء تحالفاته الخارجية، غير أن الأمر كان ينعكس سلبا على وضعه الداخلي، إذ أن المحسوبين في اللجنة العسكرية على ليبيا والمؤيدين لعقد صلح منفرد مع الصحراويين كانوا قد عززوا صفوفهم ببعض حلفائه بما في ذلك كل من وزير الدفاع هيداله وقائد الأركان أحمدو ولد عبد الله. فقد كان احتمال عودة البلاد إلى الحرب سببا كافيا لأن يجد رئيس الوزراء عدد أنصاره داخل اللجنة يتناقص يوما بعد يوم.
من جهتها كانت القوى السياسية المناهضة للحرب ولعودة "النظام البائد"، جاهزة لإعطاء الضوء الأخضر لزعزعة السلطة الوليدة، بعضها ناقش بجدية فكرة ضرورة حمل السلاح لإسقاطها بينما قرر بعضها الآخر تحريك الشارع لتوفير الظروف الملائمة لتصحيح جديد. في الثامن مايو كانت العاصمة على موعد مع مواجهات عنيفة بين التلاميذ المضربين وقوات الأمن، وستستمر أجواء التوتر إلى أن تتحول يومي 23 و 24 إلى مواجهات عرقية هي أسوأ ما شهدته البلاد منذ أحداث 1966.
ومن جهتهم كان الصحراويون يضاعفون من التصريحات شديدة اللهجة ومن حشد قواتهم في منطقة واد الذهب وحتى داخل التراب الموريتاني، وكان الليبيون قد أقاموا مواقع متقدمة في نواكشوط للتصنت والمراقبة. أما داخل اللجنة العسكرية فقد ساء الوضع كثيرا بعد أن رفض معارضو بوسيف المصادقة على مشروع الميزانية الذي قدمه باعتباره "مشروع ميزانية تبذير"، بل ذهبوا أبعد من ذلك حين اتهموا بعض المقربين منه بالفساد. كان ما يحدث –في الشارع أو داخل اللجنة العسكرية- بمثابة إعلان حرب وتحد لسلطة بوسيف، فكان عليه أن يبدأ برفع التحدي.
أعلن وزير الداخلية الرائد تيام الحاج يوم 24 مايو أن "صبر الحكومة قد نفد وأنها ستضمن أمن المواطنين مهما كلف الثمن"، وأمر باعتقال عشرات الأشخاص من بينهم قيادات في كل من التيار البعثي والحركة الوطنية الديمقراطية. أما إعادة ترتيب الأوراق داخل اللجنة العسكرية فقد كان الشغل الشاغل لرئيس الوزراء خلال أيامه الأخيرة، إلا أنه أرجأ اتخاذ أي قرار بشأنه لحين عودته من السنغال رغم إلحاح بعض المقربين من أن الوضع لا يتحمل غيابه ولو لدقيقة واحدة.
كان الوضع متوترا إلى أبعد الحدود وكان مقربون كثر من رئيس الوزراء يعتقدون أن حياته في خطر وأن عليه البقاء في نواكشوط واتخاذ إجراءات عاجلة لبسط نفوذه على المواقع الحساسة في الجيش، غير أنه أصر على التوجه صبيحة 27 مايو إلى العاصمة السنغالية، ربما غير مدرك تماما بأن تلك ستكون رحلته الأخيرة، وأن المشروع الذي كان يسعى لتنفيذه سيتوقف إلى إشعار آخر!
تحقيق من إعداد "أقلام"
نشر الاحد 29 أيار (مايو) 2011